أزمة الحركات الإصلاحية في المغرب بين العقل السياسي والتاريخي

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

منذ وقت مبكر، نبه المفكر المغربي عبد الله العروي إلى التوتر البنيوي القائم بين السياسي والمؤرخ، مشيراً إلى أن السياسي غالباً ما يلجأ إلى طمس جزء من الذاكرة التاريخية لتبرير مواقفه أو لإزالة الإحراج المرتبط بمساره. هذه المفارقة بحسب ” العروي ” بين ما يقوله التاريخ وما يسعى السياسي لتحقيقه تصبح أكثر تعقيداً عندما يدخل هذا الأخير مرحلة الإصلاح، حيث يحاول باستمرار أن يمنح تجربته طابعاً استثنائياً يبرر به انحرافه عن القواعد العامة التي حكمت سابقاتها من الحركات الإصلاحية.

السياسي يرى في تجربته إصلاحاً خاصاً لا يخضع للمنطق التاريخي العام، بينما المؤرخ يسعى إلى استقراء المسارات، واستخلاص النواميس التي تحكم نشوء الحركات الإصلاحية وتفككها، بغض النظر عن اختلافاتها الأيديولوجية.

فالمؤرخ يعاين الوقائع المشتركة، ويرصد الأنماط المتكررة، بينما السياسي، حفاظاً على صورته، يقفز على هذه الأنماط، نافياً وجود قانون عام يحكم سيرورة التحلل.

هذا التباين الجذري بين عقل المؤرخ وعقل السياسي يعيد نفسه في كل تجربة إصلاحية تشهد التراجع، حين تعجز النخب السياسية عن مواكبة التحولات، أو تتورط في تبرير الفشل على أساس الخصوصية والسياق، دون مساءلة جادة للبنية الفكرية أو التنظيمية التي أنتجت الأزمة.

– في تأمل ظاهرة التحلل: من التجريد إلى الأمثلة

أثبتت تجارب الحركات الإصلاحية في السياق العربي، أن لحظة الانكسار تبدأ عندما تصطدم هذه الحركات بأزمات تتطلب قدرة استثنائية على التأقلم النظري، وإبداع سياسي يحول الصدمة إلى فرصة، لكن، في أغلب الحالات، يتكرر السيناريو ذاته من خلال ضعف في القراءة، وانقسام تنظيمي، وتحلل تدريجي.

– الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: من الزخم إلى التيه

مثّل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حالة نموذجية لتحلل الحركة الإصلاحية، فبعد قيادة حكومية قصيرة بقيادة عبد الله إبراهيم في 1959، عجز الحزب عن إنتاج جواب سياسي ونظري موحد عقب إعفاء الحكومة، فانفرط عقده الداخلي، وسادت خلافات عميقة حول الخط السياسي المناسب، ورغم محاولات المهدي بن بركة في “الاختيار الثوري” لبلورة نقد ذاتي، فإن أطروحاته فتحت باباً جديداً على التيه السياسي، بتوجهات متباينة نحو العمل المسلح أو التحالفات الخارجية.

لاحقاً، ساهم عبد الرحيم بوعبيد ومثقفون بارزون كالجابري في إعادة التوازن الفكري للحركة، وترسيخ خيار النضال الديمقراطي، ما مهّد لتجربة التناوب السياسي، غير أن أزمة 2002، حين تم تجاوز عبد الرحمان اليوسفي في تشكيل الحكومة رغم تصدر حزبه للانتخابات، أعادت إنتاج مأزق التحلل.

فرغم خطاب بروكسيل القوي، ظل الحزب عاجزاً عن تنظيم رد جماعي، وتفتتت بنيته التنظيمية تحت ضغط المصالح والاختراقات.

– العدالة والتنمية: سرعة التحلل وهشاشة البناء

تكرر السيناريو بشكل أكثر تسارعاً مع تجربة حزب العدالة والتنمية، خصوصاً بعد إعفاء عبد الإله بنكيران في سياق ما عُرف بـ”البلوكاج الحكومي”، و برغم ما تضمنته مواقف بنكيران من إشارات سياسية قوية، إلا أن الحزب اختار الانحناء للعاصفة، دون مراجعة فكرية أو استراتيجية حقيقية.

المؤتمر الحزبي تحوّل إلى محطة لتصفية الحسابات، بدل أن يكون لحظة تجديد للمشروع الإصلاحي، وأفضت الحسابات الضيقة إلى انقسام داخلي، واستنزاف الحزب في تدبير يومي بلا رؤية، تحت ضغط الدولة من جهة، وقواعد الحزب الغاضبة من جهة أخرى.

الانتخابات التشريعية لعام 2021 كانت بمثابة الإعلان الرسمي لتحلل تجربة الحزب، وعجز عقله السياسي عن تقديم إجابات عملية تعيد ترميم المشهد.

– النمط العام في تحلل الحركات الإصلاحية

بعيداً عن الفروق الأيديولوجية، تظهر في هذه التجارب الثلاث (الاتحاد الاشتراكي، العدالة والتنمية، النهضة التونسية) سمات مشتركة في مسار التحلل:

عجز العقل النظري عن مواكبة التحولات حيث تفشل النخب الفكرية في تقديم قراءة تفسيرية للأزمات، وتترك المجال للقيادات السياسية لتدبير المآزق دون أفق نظري واضح.

فالخضوع لمنطق الدولة العميقة أو ضغط السلطة، يجعل التدبير السياسي يتجه مباشرة إلى تبرير دائم لمخرجات لا تُمكّن الحركات من الحفاظ على مشروعها أو تموقعها.

– الانقسام الداخلي والصراع التنظيمي:

يعد الانقسام سمة بارزة في لحظات الأزمات، حيث يتم إضعاف الجواب الجماعي، ويحل التنافس على المواقع بدل التوافق حول الرؤية،
وفي حالات أخرى، كما في تجربة حركة النهضة التونسية أو جماعة الإخوان المسلمين، يتم الالتفاف على العقل النظري بالمزايدة على القيادة التاريخية أو باستحضار منطق المظلومية، دون إعمال مراجعة فكرية حقيقية أو إقرار بالأخطاء.

– الحاجة إلى عقل نظري بديل

إن تكرار تجربة التحلل في كل حركة إصلاحية تقف على عتبة السلطة أو تلامسها، يكشف عن خلل بنيوي في الوعي النظري والسياسي لهذه الحركات. فالإصلاح لا يمكن أن يكون لحظة استثنائية في التاريخ يتم تطويعها بمنطق الخصوصية، بل يجب أن يكون مشروعاً خاضعاً للنقد والمراجعة والتطور.

ولعل ما ينقص هذه الحركات ليس فقط الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء، بل وجود “عقل إصلاحي” يملك الجرأة على مساءلة الذات، وتجاوز الإطار التقليدي للصراع، لصالح إعادة بناء المشروع الإصلاحي على أسس فكرية وتنظيمية جديدة قادرة على مقاومة التآكل، واستعادة المبادرة.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى